فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

{فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ} قال تأسفًا بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال: {فكيف آسَى عَلَى قَومٍ كَافِرِينَ} ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم، أو قاله اعتذارًا عن عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإِنذار وبذلت وسعي في النصح والإِشفاق فلم تصدقوا قولي، فكيف آسى عليكم. وقرئ {فكيف إيسي} بإمالتين. اهـ.

.قال الخازن:

{فتولى عنهم} يعني فأعرض عنهم شعيب شاخصًا من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} يعني أنه قال لهم ذلك لما تيقن نزول العذاب بقومه واختلفوا هل كان ذلك القول قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه الصلاة والسلام وقوله: {فكيف آسى} يعني أحزن {على قوم كافرين} والأسى أشد الحزن وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان فلما نزل بهم ما نزل من العذاب عزى نفسه فقال كيف أحزن على قوم كافرين لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر.
وقيل في معنى الآية إن شعيبًا قال لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم يعني إنكم لستم مستحقِّين لأن يحزن عليكم.
فعلى القول الأول: إنه حصل لشعيب حزن على قومه.
وعلى القول الثاني: لم يحزن عليه والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم}.
تقدّم تفسير نظيره في قصة صالح عليه السلام.
{فكيف آسى على قوم كافرين} أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبّه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن إذ هما نقضيان كما جاء لا تتراءى نارًا هما وكأنه وجد في نفسه رقّة عليهم حيث كان أمله فيهم أن يؤمنوا فلم يقدر فسرى ذلك عن نفسه باستحضار سبب التسلي عنهم والقسوة فذكر أشنع ما ارتكبوه معه من الوصف الذي هو الكفر بالله الباعث على تكذيب الرّسل وعلى المناوأة الشديدة حتى لا يساكنوه وتوعدوه بالإخراج وبأشد منه وهو عودهم إلى ملتهم، قال مكي: وسار شعيب بمن تبعه إلى مكة فسكنوها وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش إيسي بكسر الهمزة وهي لغة تقدّم ذكرها في الفاتحة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ}.
قاله عليه الصلاة والسلام بعد ما هلكوا تأسفًا بهم لشدة حزنِه عليهم ثم أنكر على نفسه ذلك فقال: {فَكَيْفَ ءاسى} أحزن حزنًا شديدًا {على قَوْمٍ كافرين} أي مُصِرِّين على الكفر ليسوا أهلَ حزنٍ لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم، أو قاله اعتذارًا عن عدم شدة حزنِه عليهم، والمعنى لقد بالغتُ في الإبلاغ والإنذار وبذلتُ وُسعي في النصح والإشفاقِ فلم تُصدِّقوا قولي فكيف آسى عليكم وقرئ {إيسى} بإمالتين. اهـ.

.قال الألوسي:

{فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يا قوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ}.
تقدم الكلام على نظيره، بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيبًا وتوبيخًا لهم وقوله سبحانه: {فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين} إنكار لمضمونه، أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصحية والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني {فَكَيْفَ ءاسى} أي لا آسي عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في الصحاح والقاموس أو شدة الحزن كما في الكشاف ومجمع البيان، ويحتمل أن يكون تأسفًا بهم لشدة خزنه عليهم، وقوله سبحانه: {فَكَيْفَ} إلخ إنكار على نفسه لذلك، وفيه تجريد والتفات على ما قيل حيث جرد عليه السلام من نفسه شخصًا وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه والتفت على الخطاب إلى التكلم، وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه ليس من الالتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضي صيغة التكلم وهي تنافي التجريد، وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفًا ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرًا لفعله الأول، وقد جاء ذلك كثيرًا في كلامهم ومن ذلك قول زهير:
قف بالديار التي لم تعفها القدم ** بلى وغيرها الأرواح والديم

والنكتة فيه الإشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره، وابن حجة لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والايجاب وكأن منشأ ذلك اعتماد في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الأصبع لما اشتبه عليه الفرق، وعلى الاحتمالين في قوله سبحانه: {على قَوْمٍ} إلخ إقامة الظاهر مقام الضمير للإشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم، وقرأ يحيى بن وثاب {فَكَيْفَ} بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف الضارعة كقوله:
قعيدك أن لا تسمعيني ملامة ** ولا تنكىء جرح الفؤاد فييجعا

وإمالة الألف الثانية، هذا ثم إن شعيبًا عليه السلام بعد هلاك من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به بمكة حتى ماتوا هناك وقبورهم على ما روى عن وهب بنمنبه في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام أما قبر إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود، وروى عنه أيضًا أنه عليه السلام كان يقرأ الكتب التي كان الله تعالى أنزلها على إبراهيم عليه السلام، ومن الغريب ما نقل الشهاب أن شعيبًا إثنان وأن صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فتبصر والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال السعدي:

{فتولى عَنْهُمْ}.
فحين هلكوا تولى عنهم نبيهم شعيب عليه الصلاة والسلام {وَقَالَ} معاتبا وموبخا ومخاطبا بعد موتهم: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} أي: أوصلتها إليكم، وبينتها حتى بلغت منكم أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وخالطت أفئدتكم {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} فلم تقبلوا نصحي، ولا انقدتم لإرشادي، بل فسقتم وطغيتم.
{فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي: فكيف أحزن على قوم لا خير فيهم، أتاهم الخير فردوه ولم يقبلوه ولا يليق بهم إلا الشر، فهؤلاء غير حقيقين أن يحزن عليهم، بل يفرح بإهلاكهم ومحقهم. فعياذا بك اللهم من الخزي والفضيحة، وأي: شقاء وعقوبة أبلغ من أن يصلوا إلى حالة يتبرأ منهم أنصح الخلق لهم؟. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ}.
تقدم تفسير نظير هذه الآية إلى قوله: {ونصحت لكم} من قصة ثمود، وتقدم وجه التعبير بـ {رسالات} بصيغة الجمع في نظيرها من قصة قوم نوح.
ونداؤُه قومه نداء تحسر وتبرىء من عملهم، وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر، حين وقف على القليب الذي ألقي فيه قتلى المشركين فناداهم بأسماء صناديدهم ثم قال: {لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا} وجاء بالاستفهام الإنكاري في قوله: {فكيف آسى على قوم كافرين} مخاطبًا نفسه على طريقة التجريد، إذ خطر له خاطر الحزن عليهم فدفعه عن نفسه بأنهم لا يستحقون أن يؤسف عليهم لأنهم اختاروا ذلك لأنفسهم، ولأنه لم يترك من تحذيرهم ما لو ألقاه إليهم لأقلعوا عما هم فيه فلم يبق ما يوجب أسفه وندامته كقوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} [الكهف: 6] وقوله: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8].
فالفاء في {فكيف آسى على قوم كافرين} للتفريع على قوله: {لقد أبلغتكم} إلخ.
فرع:
الاسستفهام الإنكاري على ذلك لأنه لمّا أبلغهم ونَصحَ لهم وأعرضوا عنه، فقد استحقوا غضب من يَغضب لله، وهو الرسول، ويرى استحقاقهم العقاب فكيف يحزن عليهم لما أصابهم من العقوبة.
والأسى: شدة الحزن، وفعله كرضي، و{آسى} مضارع مفتتح بهمزة التكلم، فاجتمع همزتان.
ويجوز أن يكون الاستفهام الإنكاري موجهًا إلى نفسه في الظاهر، والمقصود نهي من معه من المؤمنين عن الأسى على قومهم الهالكين، إذ يجوز أن يحصل في نفوسهم حزن على هلكى قومهم وإن كانوا قد استحقوا الهلاك.
وقوله: {على قوم كافرين} إظهار في مقام الإضمار: ليتأتى وصفهم بالكفر زيادة في تعزية نفسه وترك الحزن عليهم.
وقد نَجى الله شعيبًا مما حلّ بقومه بأن فارق ديار العذاب، قيل: إنه خرج مع من آمن به إلى مكة واستقروا بها إلى أن تُوُفوا، والأظهر أنهم سكنوا محلة خاصة بهم في بلدهم رفع الله عنها العذاب، فإن بقية مدين لم يزالوا بأرضهم، وقد ذكرت التوراة أن شعيبًا كان بأرض قومه حينما مرّت بنو إسرائيل على ديارهم في خروجهم من مصر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}.
و{تولى عنهم} أي تركهم وسار بعيدًا عنهم، وحدثهم متخيلًا إياهم {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ}، فكأن المنظر العاطفي الإنساني حين رأى كيف أصبحوا، وتعطف عليهم وأسى من أجلهم، لكن يرد هذا التعاطف متسائلا متعجبًا {فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ}؟ إنهم نوع من الناس لا يحزن عليهم المؤمن. فما بالنا بنبي ورسول؟ إنه يحدث نفسه وكأنه يقول: ما قصرت في مهمتي، بل أبلغتكم رسالاتي التي تلقيتها من الله، والرسالات إذا جمعت فالمقصود منها أو رسالته ورسالة الرسل السابقين في الأمور التي لم يحدث فيها نسخ ولا تغيير، أو رسالاته أي في كل أمر بلغ به؛ لأنه كان كلما نزل عليه حكم يبلغه لهم. أو أن لكل خير رسالة، ولكل شر رسالة، وقد أبلغهم كل ما وصله من الله، ولم يقتصر على البلاغ بل أضاف عليه النصح، والنصح غير البلاغ، فالبلاغ أن تقول ما وصلك وينتهي الأمر، والنصح هو الإلحاح عليهم في أن يثوبوا إلى رشدهم وأن يتبعوا نهج الله. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأعراف: الآيات 85- 87]

{وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}.
كان يقال لشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} معجزة شاهدة بصحة نبوّتى أوجبت عليكم الإيمان بى والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه، فأوفوا ولا تبخسوا. فإن قلت: ما كانت معجزته؟ قلت: قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة، لقوله: {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}.
ولأنه لابد لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه، وإلا لم تصح دعواه، وكان متنبئًا لا نبيا غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى اللّه عليه وسلم فيه. ومن معجزات شعيب عليه السلام: ما روى من محاربة عصى موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه. وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصى آدم عليه السلام على يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات، لأنّ هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام، فكانت معجزات لشعيب. فإن قلت: كيف قيل {الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ} وهلا قيل: المكيال والميزان، كما في سورة هود عليه السلام؟ قلت: أريد بالكيل: آلة الكيل وهو المكيال. أو سمى ما يكال به بالكيل، كما قيل: العيش، لما يعاش به. أو أريد: فأوفوا الكيل ووزن الميزان. ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر، ويقال: بخسته حقه: إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم: تحسبها حمقاء وهي باخس. وقيل {أَشْياءَهُمْ} لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئًا إلا مكسوة كما يفعل أمراه الحرمين. وروى أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطاعا، ثم أخذوها بنقصان ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفا بَعْدَ إِصْلاحِها بعد الإصلاح فيها، أي لا تفسدوا فيها بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم. وإضافته كإضافة قوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} بمعنى بل مكركم في الليل والنهار، أو بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف {ذلِكُمْ} إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض. أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه. ومعنى {خَيْرٌ لَكُمْ} يعنى في الإنسانية وحسن الأحدوثة، وما تطلبونه من التكسب والتربح، لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إن كنتم مصدقين لي في قولي ذلكم خير لكم {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ} ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين. والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ومحل {تُوعِدُونَ} وما عطف عليه: النصب على الحال أي: ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل اللّه، وباغيها عوجًا. فإن قلت: صراط الحق واحد، {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فكيف قيل: بكل صراط؟
قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحدًا يشرع في شيء منها أو عدوه وصدّوه. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في {آمَنَ بِهِ}؟ قلت: إلى كل صراط. تقديره: توعدون من آمن به وتصدّون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل اللّه موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه. وقيل: كانوا يجلسون على الطرق والمراصد، فيقولون لمن مرّ بهم: إن شعيبًا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم، كما كان يفعل قريش بمكة. وقيل: كانوا يقطعون الطرق.
وقيل: كانوا عشارين {وَتَبْغُونَها عِوَجًا} وتطلبون لسبيل اللّه عوجا، أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها: أو يكون تهكما بهم، وأنهم يطلبون لها ما هو محال، لأنّ طريق الحق لا يعوج {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} إذ مفعول به غير ظرف. أي: واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم {فَكَثَّرَكُمْ} اللّه ووفر عددكم.
قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط فولدت فرمى اللّه في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا. ويجوز إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم: فجعلكم مكثرين موسرين. أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد {عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فَاصْبِرُوا فتربصوا وانتظروا {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا} أي بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد للكافرين بانتقام اللّه منهم، كقوله: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} أو هو عظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم اللّه بينهم وينتقم لهم منهم.
ويجوز أن يكون خطابًا للفريقين، أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم، حتى يحكم اللّه فيميز الخبيث من الطيب {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} لأنّ حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف.